الفصل الأول

القطاع الزراعى المطرى التقليدي فى السودان فى مواجهة التحديات

1.1 مقدمة:

يمتلك السودان قاعدة ذاخرة بالموارد والثروات الطبيعية المتنوعة ـ متجددة وغير متجددة ـ وتشمل: الأرض الزراعية الشاسعة، الثروة الحيوانية، المعادن (النفط والذهب) والمياه. وهى على الرغم من كونها قابلة للاستغلال والذى ينبغى أن يتم بعناية وحذر، إلا أن الأمر لم يكن كذلك فى الماضى، فلقد أدى استخدامها فى شكل صناعات تحويلية الى إلحاق ضرر بالغ بقاعدة الموارد والنظام الاجتماعى.

2.1  الاعتماد على الموارد غير المتجددة:

اعتمد النمو الاقتصادى الراهن فى السودان بشكل مباشر على النفط منذ العام 1998، إذ يمثل نحو 40% من الدخل القومى، و90% من عائدات الصادر، و15% من القيمة المضافة لقطاع الصناعة. فقد ارتفع معدل دخل الفرد بسبب النفط من 345 دولاراً أمريكياً قبل ظهور النفط عام 1998 الى 570 دولاراً فى العام 2009. كما ساهم النفط فى تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة مما أدى الى تحريك قطاعى التشييد والخدمات، بينما تقلصت مساهمة الزراعة فى الناتج المحلى الإجمالى خلال هذه الفترة من حوالى 46% عام 1997 الى نحو 30% فى العام 2011م وهكذا، فما لبثت البلاد أن واجهت النتائج السالبة للاعتماد على نظام الإنتاج غير المستدام. لقد نتج ذلك بصورة أساسية عن إنفصال الجنوب عام 2011 وما صاحبه من فقدان 75% من إنتاج النفط، حيث أدى وجود حقول النفط فى الجنوب الى ضياع 26% من إجمالى القيمة المضافة و90% (ما يعادل 12.9% من الناتج المحلى الإجمالى) خسارة من عائدات الصادرات، و6% من الناتج المحلى الإجمالى خسارة فى إجمالى الإيرادات[1]. ولقد إنعكست النتيجة بصورة مباشرة فى التدهور المريع لاقتصاد البلاد. وحسب تقرير صندوق النقد الدولى، فإن احتياطى النقد الأجنبى الذى بلغ 1.8 بليون دولاراً (ما يعادل الاحتياجات المخصصة للاستيراد لمدة 2.1 شهراً) فى العام 2008، انخفض بصورة حادة فى عام 2012 ليبلغ نحو 1 بليون دولاراً (ما يعادل الاحتياجات المخصصة للاستيراد لمدة شهر ونصف)[2]. أما الجنيه السودانى فقد انخفضت قيمته مقابل الدولار الأمريكى مع ظهور سعر موازٍ وفجوة بين سعر الصرف الرسمى والموازى بلغت 60 ـ 70% فى فبراير 2012 مما أدى الى تخفيض قيمة الجنيه بنسبة 66% فى فبراير 2012. كما تم فرض حظر على تداول العملات الأجنبية والسيطرة عليها ليتم توزيعها للراغبيين بكميات أو حصص محدودة. وفيما ارتفع متوسط معدل التضخم العام من 13% فى عام 2010 إلى 15% بنهاية العام 2011، فقد ظل فى تصاعد مطرد الى أن بلغ 45.3% فى اكتوبر 2012[3].

ومع هذا الوضع الاقتصادى المتردى، فقد كان السودان محظوظاً بفضل الارتفاع المفاجئ لعائدات الذهب التى غطت جزئياً على التباطؤ فى النمو إثر فقدان عائدات النفط، لتحول دون حدوث إنهيار اقتصادى. ولقد شجعت الزيادة الكبيرة والمفاجئة فى إنتاج الذهب والمصحوبة بارتفاع غير مسبوق فى أسعاره عالمياً، شجعت الحكومة على الاعتماد عليه فى التعويض جزئياً عن خسارة النفط. فقد ارتفع إنتاج الذهب من 6 أطنان عام 2006 إلى 23 طناً فى 2011، ويتوقع أن يصل إلى 63 طناً بنهاية العام 2012. أما العائدات، فقد ارتفعت من نحو 64 مليون دولاراً فى عام 2006 إلى 1.4 بليون دولاراً عام 2011، ويتوقع أن تصل إلى 2.5 بليون دولاراً فى العام 2012[4]. وعلى الرغم من أثره التضخمى (ومنافسته للزراعة فى القوى العاملة)، فقد أعاد الذهب بعضاً من الاستقرار  للاقتصاد السودانى.

وبالنظر إلى كونه مورداً غير متجدد إلى جانب تأرجح أسعاره، فإن الذهب لا يختلف عن النفط. فكلاهما موردان قابلان للنضوب. وإلى ذلك فإن السودان قد جرب الاعتماد على مورد قابل للزوال السريع. وعليه فإنه يتوجب على السودان أن يدرك أن خياره الوحيد للتنمية المستدامة على المدى البعيد، وكذلك مداخيله من النقد الأجنبى تعتمد بصورة أساسية على الزراعة. وعموماً، فإن قُدّر للسودان أن يعود إلى الاعتماد على الزراعة المطرية مع استمرار نظامها السائد اليوم، فقد لا يبقى هنالك الشيء الكثير لتنميته، وذلك للعوامل التالية:

1.2.1 الزراعة المطرية التقليدية فى سبيلها لأن تصبح نشاطاً غير مجزٍ:

إن الأداء الضعيف لهذا القطاع مؤشر على أن مساهمته متخلفة كثيراً عما هو متوقع له. فمعدل النمو الثابت بالنسبة للمحاصيل أثناء تسعينيات القرن الماضى انخفض من 24.6% الى 2.4% خلال الأعوام 2000م ـ 2008م. ويعزى ذلك إلى تدنى الإنتاجية بصفة أساسية. أما عند حدوث أى ارتفاع فى الإنتاج الكلى لهذا القطاع فإن ذلك يعود أساساً إلى التوسع السريع فى معدل إنتاجية الذرة ـ المحصول الرئيسي فى هذا القطاع من 171 ك/فدان خلال الفترة 71/1972م ـ 90/1991م الى 158 ك/فدان فى الفترة 90/1991م ـ 11/2012م ـ أما السمسم وهو المحصول الغالب فى الزراعة المطرية ـ فقد انخفض بصورة مريعة ـ {حيث إنخفض متوسط معدل الإنتاجية السنوى من 74.1 ك/فدان خلال الفترة من سبعينيات الى تسعينيات القرن الماضى الى 49.2 ك/فدان خلال الفترة من تسعينيات القرن الماضى حتى العام 2012م}. أما إنتاجية الثروة الحيوانية فهى الأخرى متدنية، فمعدلات الخصوبة بالنسبة للضأن ـ والتى تعرف بنسبة الحمل من إجمالى الإناث البالغات ـ تتراوح ما بين 60 إلى 80% فى مناطق الرعى مما يعكس مستوى نمو متواضع، وكذلك نسبة السحب الضعيفة المعهودة فى السودان بل وحتى قياساً بالمعايير الأفريقية[5]. ويتم تعويض الإنتاج بزيادة عدد القطيع الذى يزيد الاستهلاك المحلى منه عما يتم تصديره، إذ أن الأسعار المحلية تفوق أسعار الصادر. وتُظهر بيانات الميزة النسبية (RCA) أن السلع المصدرة من الدخن واللحم المذبوح، والأبقار ظلت تعانى من ضعف قدرتها التنافسية فى الأسواق العالمية منذ العام 2000. أما الفول السودانى فقدْ فقدَ هو الآخر قدرته التنافسية فى العالم الخارجى. وهنالك منتجات أخرى، وخاصة السمسم والضأن والإبل على الرغم مما لديها من ميزة تنافسية معتبرة، إلا أنها تميل إلى التدنى مع مرور الزمن. وهذا الوضع هو انعكاس واضح لضعف التغيير التقنى والتجديد والإبتكار المطلوبة لتطوير هذا القطاع[6]، إلى جانب الأساليب غير الفعالة فى نقل التقانة الحديثة. وينعكس ضعف الأداء فى الصادرات الزراعية على وجه العموم . فقد ظلت الصادرات الزراعية بصفة عامة راكدة بمتوسط 450 ـ 580 بليون دولاراً وشروط إسمية على مدى نحو 40 سنة كما توضح التقارير السنوية للبنك المركزى.

2.2.1 الزراعة المطرية التقليدية لا تتقيد بالممارسات البيئية السليمة:

إن الأساليب المتبعة فى تصريف أنشطة القطاعات الفرعية {الرئيسية} المكونة للقطاع المطرى ـ تحديداً الزراعة شبه الآلية والزراعة التقليدية والرعاة الرحل ـ هى المهدد الحقيقى لبقاء القطاع المطرى التقليدى بسأأسره. فالممارسات الإدارية المتبعة حالياً والقائمة على تحقيق المنافع الخاصة على المدى القريب بسبب عدم ضمان ملكية الأرض الى جانب ضعف المدخلات، لا تقيم وزناً أو تعطى اعتباراً للقيمة المجتمعية للبيئة. فالمزارعون من فئة الزراعة شبه الآلية يستنزفون الأرض المصدقة لهم ويحرصون على مضاعفة فوائدهم قصيرة المدى. وأثناء ذلك يستمر الرعاة الرحل فى زيادة أعداد قطعانهم الى ما يفوق الطاقة الاستيعابية للمراعى كوسيلة أو آلية لمواكبة ظروف البيئة الهشة.

3.1 الزراعة شبه الآلية:

لقد مورست الزراعة المطرية شبه الآلية فى السودان كصناعة تحويلية. ويحتل هذا النظام أجزاء واسعة من السهول الطينية فى حزام السافنا الغنية، وظل فى توسع مطرد من حوالى 8.9 مليون فدان فى الأعوام 80/1985 الى 14.5 مليون فدان فى الفترة 2006 ـ 2012 ممتداً من الفشقة فى شرق السودان إلى جنوب كردفان فى الوسط، وجنوب دارفور {أم عجاج} فى أقصى الغرب. وتفوق مساحات الزراعة شبه الآلية خارج التخطيط تلك المخططه. ويتم تخصيص الأراضى لموظفى الدولة والمستثمرين من القطاع الخاص لإنتاج الحبوب لأغراض الصادر.

لقد تطورت الزراعة شبه الآلية مع كل ما منح لها من حوافز على حساب البيئة والمجتمع لتصبح مدمرة لهما، إذ لم يلجأ هذا النشاط فى العادة الى استخدام الأسمدة ولا نظام الدورة الزراعية المنتظمة أو الأرض البور {المُراحة}، وإنما استخدم قوة الآلة {التراكتر} فى نظافة ملايين الأفدنة بإزالة الغطاء الشجرى فيها. ثم ما تلبث الأرض أن تُهجر بعد هذا الخراب البيئ والاجتماعى الواسع النطاق. بل وأحياناً يكون الهدف الرئيسي من الحصول على تصديق مشروع الزراعة الآلية هو إنتاج الفحم وحطب الحريق وليس للأغراض الزراعية أو إنتاج المحاصيل. وعلى الرغم من أن أصحاب المشاريع ملزمون قانوناً بتخصيص 10% من المساحة المقترحة للمشروع لعمل أحزمة أو مصدات شجرية، إلا أنه لم تتم مراعاة ذلك أبداً من قبلهم، فى حين عجزت الحكومة عن فرض هذا الشرط القانونى. بل وحتى فى حالة مراعاة تنفيذه فإن ذلك سوف لن يكون كافياً حسب ملاحظة برنامج الأمم المتحدة البيئ[7] (UNEP). فالتصاديق الممنوحة للمشاريع الزراعية شبه الآلية الضخمة تتجاهل تماماً وسائل المعيشة السائدة فى المنطقة المصدقة سواء أكانت طرق ماشية، أو مراعى أو زراعة تقليدية أو أشجار هشاب أو غابات. ويجرى منح تصاديق المشاريع شبه الآلية عبر عدة جهات اختصاص ووفق شروط مختلفة. كما تتم عملية التصديق من دون مشورة أصحاب المصلحة وبلا تعويض.

لقد خلَف نظام الإنتاج بهذا الأسلوب ملايين الأفدنة عبارة عن صحراء جرداء، وإذا استمر الحال فى استنزاف الأرض على هذا المنوال فإن الأمر سيصبح مسألة وقت فقط لكى تتحول معظم أجزاء البلاد الى قفر يباب.

لقد اعتمدت الزراعة التقليدية فى الماضى ـ خاصة فى شمال كردفان ودارفور ـ على نظام تقليدى للدورة الزراعية والتداخل المحصولى يعتبر أفضل نسبياً، إلا أنه بدأ ينهار منذ زمن بعيد بسبب تأثير الجفاف والتصحر، والزيادة السكانية، والزراعة شبه الآلية، وضعف الوسائل التقنية والمدخلات، وفوق كل ذلك إنعدام الحوافز فيما يتعلق بنظام ملكية الأرض. فالتحديات الديمغرافية والسياسية والتقنية الماثلة اليوم قد أخلت بهذا التوازن. وقد استجاب المزارعون التقليديون لهذه المؤثرات وذلك بزيادة المساحات المزروعة وتقصير فترات البور {المُراح} مما جعلهم يتقدمون شيئاً فشيئاً نحو الأراضى الهامشية. فالسودان اليوم يشهد إنهيار نظام موروث للزراعة التقليدية وبذا يصبح نظام إنتاج غير مستدام.

ومن ثم، وبدون إتخاذ إجراءات فاعلة لوقف موجة التدهور والحفاظ على إنتاجية الأرض، فإن قاعدة الموارد الطبيعية سوف تستمر فى الإنتكاس حتى مع تزايد حجم الطلب، ومع مرور الزمن فسوف لن تكون هنالك أراضٍ كافية للتوسع. وهكذا، فإن النزوح الجماعى نحو المناطق الحضرية قد بدأ بالفعل وسوف يستمر بلا شك فى الإزدياد. وقد أدى ذلك سلفاً الى إحداث أضرار بالغة ودائمة. فحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائى (UNDP) ـ التقييم البيئ للسودان ما بعد الصراع ـ فإن تراجعاً يقدر بنحو 50 الى 200 كلم تجاه الجنوب قد حدث فى الحد الفاصل بين الصحراء وشبه الصحراء منذ أن بدأ أول رصد للأمطار والنباتات فى ثلاثينات القرن الماضى. ويتوقع أن يستمر تحرك هذا الحد الفاصل جنوباً بسبب تدنى معدلات الأمطار. أما ما تبقى من شبه الصحراء أو السافنا الفقيرة ـ الخفيفة الأمطار ـ فى الأرض الرملية والتى تمثل نحو 25% من الأرض الزراعية فى السودان، فإنها معرضة لخطر المزيد من التصحر.

 

4.1 الثروة الحيوانية:

تتكون أنظمة الثروة الحيوانية فى القطاع المطرى من:

أ‌.      الرعاة والبدو الرحل.

ب‌.   المستقرين فى نطاق ضيق.

وتواجه المشاكل الخطيرة المجموعة الأولى ـ أى الرعاة والبدو الرحل ـ وهذا النظام الرعوى هو نظام إنتاج يتميز بالاستغلال الواسع للموارد. لقد عاش تقلبات الأمطار، وعدم ضمان توفر المرعى فى الماضى بتطوير وإتباع استراتيجيات وأساليب لمواكبة هذه الظروف مثل تربية نوعيات مقاومة ولكن قليلة الإنتاج من الحيوان، والاحتفاظ بعدد كبير منها ضماناً لمواجهة الأمراض والجفاف. وقد وجد هذا النظام دعماً كبيراً وسنداً قوياً فى الماضى من الإدارة الأهلية التى تبنتها وقننتها سلطنات دارفور وسنار حيث تم تطويرها فيما بعد بواسطة الإدارة البريطانية كنوع من الإدارة غير المباشرة الفعالة. كما تبنتها أيضاً الأنظمة الوطنية عقب الاستقلال فى 1956 وحتى أوائل سبعينات القرن الماضى. وقد أُلغى نظام الإدارة الأهلية فى عام 69/1970 وصاحب ذلك أيضاً صدور قانون الأراضى غير المسجلة لسنة 1970م، وقانون التأميم والمصادرة لسنة 1970، والذى نجم عنه تأميم شركات تجارية تابعة للقطاع الخاص وتعمل فى مجال التسويق والتمويل الزراعى. وترتب على ذلك توجيه ضربة قاسية لتنمية الثروة الحيوانية والزراعية بوجه عام.

وحيث لم يتم تطبيق أى إصلاحات حقيقية، فقد استمر نفس نظام الإنتاج عبر السنين، ليضم اليوم ما يقدر بنحو (134) مليون رأساً من المواشى على الرغم من الظروف غير المواتية. وكنتيجة لذلك فقد باتت تلوح علامات التدهور الحتمى لاستراتيجيات المواكبة التقليدية وعجزها المتصاعد عن الحفاظ على الأنظمة الرعوية وحمايتها من الإنهيار خلال النصف الثانى من القرن العشرين مع تكرار وتوالى موجات الجفاف. وقد تفاقم الوضع بسبب سياسات الحكومات المختلفة التى ساهمت كثيراً فى إضعاف القطاع الرعوى من خلال تخصيص المزيد من الأراضى الرعوية لزراعة المحاصيل بالوسائل التقليدية وشبه الآلية. وقد سهل صدور قانون الأراضي غير المسجلة لسنة 1970، وإلغاء الإدارة الأهلية عام 1970 عملية الاستيلاء على الأراضى الرعوية الخاصة بالقبائل وتحويلها الى مزارع كبيرة لإنتاج المحاصيل بدون بذل مجهود يذكر لتخفيف الأثر على المستخدمين التقليديين لهذه الأرض. ثم جاء مؤخراً دور النفط حيث تم الاستيلاء على المزيد من الأراضى من أجل الاستكشافات النفطية مما أدى أيضاً الى فقدان الغطاء الشجرى عن طريق الإزالة والتلوث النفطى لتصبح الأرض الرعوية عقيماً. كما أدت محاولات التغلب على هذه العقبات بزيادة عددية المواشى إلى المزيد من التدهور وإنكماش المساحات الرعوية.

وأخيراً، فإن إنفصال الجنوب قد وجه ضربة قاصمة إلى استدامة النظام الرعوى. فكما هو معلوم، فإن الأنظمة الرعوية فى البلاد تتكيف مع تقلبات الموارد الرعوية من خلال الحركة الدائمة أثناء فصل الخريف شمالاً {المخارف}، وأثناء فصل الصيف جنوباً {المصايف}. وقد أدى هذا الحراك المستمر الى خلق علاقة دينامية عبر التاريخ بين البيئات الجافة فى الشمال والرطبة فى الجنوب من خلال عدد كبير من المسارات (المراحيل). أما اليوم فقد ضاعت المراعى الخصبة فى الجنوب الى الأبد بسبب الإنفصال.

وهكذا، فإن الآليات التقليدية المصممة للتصدى للمشاكل والتحديات بواسطة المجتمعات المحلية فى الماضى لم تعد قادرة على مجابهة الضغوط الخارجية المستجدة فبدأت تنوء بثقل تلك المهام لتؤول للإنهيار فى نهاية المطاف. وقد ظهر هذا جلياً فى تقليص المساحات المتاحة للرعى بإغلاق طرق ومسارات الماشية وتناقص مناطق الرعى الموسمية إبان موسم الأمطار "المخارف" وتقصير مداها الزمنى، وتعرية التربة، وزحف الكثبان الرملية، وانخفاض خصوبة التربة والإنتاجية، وتغير نوعية وتركيبة الفصائل النباتية نحو الأسوأ، ونشوب النزاعات حول الموارد الطبيعية، ومظاهر الفقر والهجرة الجماعية من الريف الى المدن.

إن المشاكل سالفة الذكر تشير بوضوح الى أن مستقبل الرعى فى السودان يشوبه الكثير من الغموض. فالاتجاهات الحالية لاستخدامات الأرض تنذر بأن نظام الرعى مهدد بالزوال التام خلال الـ 10 إلى 15 عاماً المقبلة. وما لم يتم إتخاذ تدابير لتدارك هذا الواقع المتردى عن طريق وضع خطة استراتيجية تهدف لإحداث التغيير المنشود، فسوف تكون النتيجة الحتمية إختفاء نظام الرعى بكامله. وهكذا، ستواجه الثروة الحيوانية السودانية خطر التقليص الذي سيقود بدوره الى تفكيك المجتمعات الرعوية. وسيترتب على ذلك أثار وخيمة ومدمرة بالنسبة لتركيبة وتنوع الاقتصاد السودانى، مع تفشي البطالة، واختلال أسلوب معيشة المجتمعات الرعوية وتوسيع قاعدة الفقر، وتهديد الأمن الغذائى والتغذية وصحة المجتمع. وفضلاً عن كل ذلك، فإن عملية التفكيك هذه سوف يصاحبها تفاقم النزاعات الاجتماعية والقبلية إثر تقلص الموارد الطبيعية للمراعى.

وخلافاً لنظام الإنتاج الرعوى البحت، فإن نظام الإنتاج المستقر الأقل حجماً، والذي يمازج بين النشاط الرعوى والإنتاج الزراعى سوف يكون له مستقبل أفضل، وخاصة الزراعة المختلطة، وذلك بتطبيق إصلاحات معينة فى مجال ملكية الأرض، وتقديم الخدمات والإنفتاح على الأسواق مما سيساعد فى تحقيق الإستدامة المنشودة.

5.1 مهددات الاستقرار الاجتماعى:

إن الخطر الماثل من جراء تجاهل تطبيق الإصلاحات اللازمة على أنظمة الإنتاج الحالية يتخطى الاعتبارات البيئية والاقتصادية الى السلم والاستقرار الاجتماعى فى البلاد.

لقد ظل السودان طوال تاريخه الحديث يتبع سياسات لم تأخذ فى الاعتبار التنمية المتوازنة ببعدها الجغرافى، الأمر الذى يعتبر العنصر الأساسى فى تعميق جذور المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وإن إهمال مناطق الزراعة المطرية كان وسيظل المصدر الرئيسي للشكاوى والتوترات التى تجسدت فى موجات النزوح الجماعى والنزاعات المسلحة، ما لم توجه إليها الأنظار لمعالجة قضاياها الماثلة.

وينعكس مظاهر التنمية غير المتوازنة بجلاء ووضوح فى المؤشرات والمعايير الاقتصادية والاجتماعية. فحجم الاستثمار المباشر فى القطاع الزراعى المطرى التقليدى يمثل فقط نسبة 4% من إجمالى الاستثمارات الاتحادية خلال السنوات الثمانِ الماضية، مقارناً بحوال 60% من الاستثمار المباشر فى قطاعى الرى والطاقة. هذا، وعلى الرغم من أن طبيعة قطاعى الزراعة المروية والطاقة تتسم بالكثافة الرأسمالية مقارنة بالقطاع المطرى، وعلى الرغم من أهمية القطاعين إلا أن هنالك عدم تناسب واضح فيما يتعلق بتخصيص الموارد. فالقطاع المطرى التقليدى يحتاج الى حجم كبير من الموارد فى المراحل الأولية لتنميته لمقابلة تكاليف البحوث فى مجالى الزراعة والثروة الحيوانية، والبنية التحتية للتسويق مثل إقامة الكورنتينات والمسالخ ونقاط المياه، والرى التكميلى والطرق الرئيسية والريفية الفرعية .. ونحوها.

وسيؤدى تجاهل القطاع الزراعى التقليدى كنتيجة حتمية الى تعميق حدة الفقر فى المناطق الريفية، والتى هى سلفاً مرتفعة فى الأرياف الموئل الرئيسي للزراعة التقليدية المطرية، بنسبة 57.6% مقارنة بنسبة 26.5% للمناطق الحضرية. وفيما تمثل نسبة سكان الريف (باستثناء الرحل) 28% من إجمالى السكان، فإن نسبة فقراء الريف تساوى نحو 75% من إجمالى الفقراء فى البلاد. وعند مراجعة أسوأ حالات الفقر فى الولايات يتبين أنها تتركز فى الولايات التى تعم فيها الزراعة المطرية التقليدية، وتحديداً: شمال دارفور                { 69.4% من السكان تحت خط الفقر}، وتليها جنوب دارفور {61.2%}، ثم جنوب كردفان {60%}، فشمال كردفان {57.9%}[8].

وهنالك فوارق ضخمة فى الخدمات الأساسية من حيث الكم والنوعية وذلك على الرغم من بعض الجهود التى بذلت مؤخراً لمعالجة هذه الفوارق وتحسين وضعية الخدمات الاجتماعية. فتوزيع شبكة الطرق على سبيل المثال لم تكن متوازنة. يدل على ذلك أن دارفور الكبرى تعد أكبر المناطق مساحة {549 ألف كلم2}، تليها ولايتا نهر النيل والشمالية {471 ألف كلم2}، ثم كردفان الكبرى والولايات الشرقية بمساحات متقاربة تقدر بنحو {349 ألف كلم2} لكلٍ، وأخيراً الولايات الوسطى التى تقل مساحتها كثيراً مقارنة بغيرها وتبلغ {154 ألف كلم2}. وعموماً فإن المعبر الشرقى يحظى بأكبر شبكة طرق يليه المعبر الشمالى على الرغم من صغر مساحته، أما معبر الولايات الوسطى فإنه بالكاد يماثل المعبر الشمالى. وفيما يتعلق بكردفان الكبرى فلديها شبكة طرق محدودة الحجم نسبياً، بينما يلاحظ أن الطرق المُعبّدة فى دارفور باستثناء طريق نيالا ـ كاس ـ زالنجى فإنها تكاد تكون فى حكم العدم. وتأتى المساعى الأخيرة الرامية لتشييد الطرق فى المناطق المحرومة مثل كردفان ودارفور فى الاتجاه الصحيح، إذ يزيد طول الطرق تحت التشييد فى دارفور الكبرى عن    1000 كيلومتراً، وفى كردفان الكبرى يقارب طولها 600 كيلومتراً تتولى مسئولية تشييدها شركات صينية. وعلى الرغم من أن العمل فى هذه المشاريع قد بدأ بالفعل، إلا أنه توقف منذ ما يزيد عن العام لأسباب تتعلق بعدم سداد الالتزامات نحو الشركات المنفذة. ولعل خير مثال لضعف التمويل هو ضعف تغطية الخدمات المصرفية بالمنطقة. فولايات دارفور تحظى بنسبة 8% فقط من مجموع فروع البنوك العاملة فى السودان، تليها ولايات كردفان بنسبة 9%، فالولايات الشمالية بنسبة 11% ثم ولايات الوسط بنسبة 20%، بينما تستأثر العاصمة القومية بمفردها بنسبة 41% من إجمالى الفروع.

لقد بدأت تظهر بوضوح الآثار الاجتماعية السالبة لأخطاء أنماط الإنتاج السائدة والفوارق الكبرى التى سلفت الإشارة إليها فيما يخص بيئة القطاع المطرى التقليدى. فقد دفعت هذه الظروف والعوامل الضاغطة كتلاً بشرية كبيرة للهجرة تجاه المراكز الحضرية. وقد ظلت ذات العوامل ومنذ العام 1980 تدفع باتجاه تسريع عمليات التوسع الحضرى. وتشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 40% من إجمالى تعداد سكان السودان يعيشون فى المدن، وأن نحو نصف سكان المدن يقطنون فى عاصمة البلاد. وكما يشير التعداد السكانى لعام 1973، فقد كانت العاصمة تستوعب حوالى 26% من الهجرات الداخلية من المناطق الأخرى، وارتفعت النسبة الى 39% و42% حسبما تشير أرقام التعداد السكانى للعامين 1983 و1993 على التوالى. وبحلول العام 2008 بلغت النسبة 49%. وبذا تكون العاصمة قد تضخمت بمعامل حسابى قدره (8) خلال الفترة ما بين العامين 1973 و 2005، مما يعنى متوسط نسبة نمو سنوى تزيد عن 6%[9]. وبالرجوع إلى الإحصاء السكانى الخامس عام 2008، فإن العاصمة القومية صارت تستضيف 5.2 مليون فرداً يمثلون نسبة 17% من مجموع سكان البلاد. كما أن غالبية المهاجرين الى العاصمة يأتون من مناطق الزراعة التقليدية، وأن معظم الوافدين لا يملكون أية مهارات تؤهلهم لشغل وظائف دائمة بالمدينة، وأن القلة المحظوظة منهم لا تتاح لهم سوى الوظائف الهامشية. وهنالك مشاكل اقتصادية واجتماعية عصية عادة ما تصاحب عملية الهجرة من الريف الى المدن وتتمثل فى البطالة، والضغوط على السكن والخدمات الأخرى، والتدهور البيئ، وإنتشار الجريمة.

خلاصة:

إنه لن يكون بمقدور السودان الاستمرار فى غض الطرف عن أسلوب الإهمال أو التجاهل المدمر فى إدارة موارده الطبيعية المتجددة فى القطاع الزراعى شبه الآلى وقطاع الرعى. فلو استمر هذا الحال فسوف يكون أكبر مهدد لخصائص التجديد التى تتسم بها تلك المناطق مما سيترتب عليه حدوث تصحر مستمر. كما أن السودان لا ينبغى له أن يستمر فى تعاطى سياسات الإهمال والتجاهل تجاه المناطق الريفية التقليدية وتعميق هوة المفارقات الحالية، إذ أن ذلك سيعنى بالضرورة زيادة حدة المنازعات والنزوح/الهجرة. وبالطبع فإن السودان يمكنه أن يتجاهل عمليات الإصلاح اللازمة للقطاع التقليدى والاعتماد كلياً على الموارد غير المتجددة مثل النفط والذهب كما يحدث الآن، ولكن هذه الموارد سوف تنضب عما قريب. وعندها فإن البلاد ستضطر للجوء الى القطاع الزراعى ولكنها ستجد أن الدمار الذى حدث نتيجة تجاهل عمليتى الإصلاح والاستثمار غير قابل للإصلاح وأن الإنهيار الاقتصادى وتفكك النسيج الاجتماعى أصبحا أمرين حتميين لا مفر منهما.

ولمواجهة هذه المشكلات الخطيرة، فإن الزراعة بعلاتها قد تبقى هى الخيار الأفضل على المدى البعيد. ولكى يتجسد هذا الخيار ليصبح أمراً واقعاً فلابد من إجراء عملية إعادة هيكلة وإصلاح للقطاع الزراعى المطرى التقليدى.


 

الفصل الثانى

أهمية وأداء القطاع التقليدى

1.2 خصائص القطاع:

جدول (1) الأهمية النسبية للقطاع المطرى التقليدى فى السودان

القطاع

المساحة المزروعة

80/1981 ـ 85/1986

المساحة المزروعة

06/2007 ـ 11/2012

ألف فدان

النسبة %

ألف فدان

النسبة %

المروى

1.291

8.0

3.5

8.2

شبه الآلى

6.000

37.0

14.5

34.1

التقليدى

8.939

55.5

24.5

57.7

إجمالى السودان

16.230

100.0

42.5

100.0

المصدر: السلاسل الزمنية ـ إدارة الإحصاء الزراعى ـ وزارة الزراعة والرى

 

يمثل القطاع الزراعى العمود الفقرى للاقتصاد السودانى والوسيلة المعيشية لغالبية سكان الريف السودانى، وتساهم الزراعية حالياً بنسبة 31% من الناتج المحلى الإجمالى[10]. وتوفر سبل المعيشة لما يقارب الـ 65% من مجموع السكان و50% من الصادرات غير النفطية، إلى جانب معظم المواد الخام لقطاع التصنيع. ويشمل القطاع الزراعى خمسة قطاعات فرعية هى: المروى، والمطرى التقليدى، والمطرى شبه الآلى، والحيوانى والغابى.

إن القطاع المطرى التقليدى هو فى واقع الأمر أسلوب فلاحة ريفية ويلعب دوراً هاماً فى التنمية الاقتصادية والحد من الفقر فى السودان قياساً بعدة معايير: كالمساحة المستغلة وحجم السكان المشتغلين بالزراعة، والمساهمة فى توفير الاحتياجات الغذائية للبلاد، وفى الصادر وعائد العملات الأجنبية. وتمارس الزراعة التقليدية بكثافة فى كل المناطق الرملية والطينية، حيث تغطى معظم ولايات البلاد التى تتراوح معدلات الأمطار السنوية فيها ما بين 300 و400 ملم. وتتداخل مع الأنشطة الإنتاجية الأخرى كرعى الحيوان المستقر والمتنقل، وجنى صمغ الهشاب. وتحتل الزراعة المطرية التقليدية ما يقدر بـ 24.5 مليون فدان {10.3 مليون هكتار}، تعادل ما يقارب ثلثى المساحة المزروعة فى البلاد (جدول 1). ومن ثم فإن هذا القطاع هو فى الحقيقة ذو أهمية بالغة بالنسبة للأمن الغذائى ومحاصيل الصادر. فهو يمثل المساهم الأساسى {57%} بالنسبة لإجمالى المساحات المخصصة لإنتاج خمسة محاصيل غذائية هى: الذرة، السمسم، الدخن، الفول السودانى والقمح {القمح التقليدى / المطرى يزرع فى جبل مرة}. وكذلك فإن كلاً من الصمغ العربى والثروة الحيوانية يتم إنتاجها فى هذا القطاع. وإن أهم مناطق الزراعة التقليدية تقع فى ولايات دارفور الكبرى وكردفان الكبرى، والنيل الأزرق، والنيل الأبيض.

ويستمد هذا القطاع أهم مقومات وجوده مما تبرزه الخصائص التالية:

¯   اعتمدت نشأته وتطوره على الثقافات المحلية من أجل توفير الحاجات الأساسية لإطعام مواطنى المنطقة.

¯   الحصول على الأرض كمتطلب أساسى يتم تنظيمه وإدارته عن طريق النظم والأعراف القبلية المرعية فيما يتعلق بملكية الأرض.

¯   الإعتماد على التقانات الإثنية فيما يختص بإختيار المحاصيل وأساليب الزراعة والأدوات المستخدمة ونحوه.

¯   استخدام الحد الأدنى من التقانة والمدخلات المتطورة أو الحديثة.

text-align: justify; line-height: normal; text-indent: -0.25in; margin: 0in 0.5in 6pt 0in; unicode-

المصدر: وزارة الثروة الحيوانية
livestock1

الثروة الحيوانية - السودان

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 6550 مشاهدة

ساحة النقاش

الثروة الحيوانية بالسودان

livestock1
يختص الموقع بتفديم البحوث والدراسات والافكار والآراء حول كيفية النهوض بقطاع الثروة الحيوانية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

521,007